فصل: تفسير الآيات (28- 32):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (28- 32):

{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)}.
التفسير:
قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.
هذا مثل آخر، ضربه اللّه سبحانه، من واقع الناس، وعلى مستوى وجودهم فيه، ليروا من خلال هذا المثل ما ينبغى للّه من كمال.
ففى الآية السابقة على هذه الآية، وهى قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} مثل مضروب من واقع الناس في حياتهم، وهو أن تشكيل الأشياء على صورة معروفة للناس، أهون عليهم من ابتداع هذه الصورة، واختراعها.. وكذلك- مع بعد ما بين قدرة اللّه وقدرة الناس- يكون بعث الموتى من قبورهم، وإعادتهم إلى الصورة التي كانوا عليها، ليس أمرا مستبعدا، حتى ينكره المنكرون، ويمارى فيه الممارون، إذ كان ذلك البعث إعادة للشيء إلى ما كان عليه، وإعادة الشيء- كما هو معروف عندهم ومسلّم به لديهم- أهون وأيسر من خلقه ابتداء.
وفي هذه الآية مثل للذين يجعلون للّه أندادا، ويتخذونهم أربابا، يحبونهم كحب اللّه، بل ويؤثرونهم بالحب والولاء...!
وفي هذا المثل يطلب إلى المشركين أن ينظروا إلى أنفسهم، وإلى الوضع الذي بينهم وبين عبيدهم، وما ملكت أيمانهم.. أيرضى هؤلاء السادة أن يسلّموا لعبيدهم- وهم بشر مثلهم- أن يشاركوهم فيما أتاهم للّه من مال ومتاع؟
وأن يقفوا منهم موقف الند والشريك؟ وأن يحاسبوهم فيما يجرون عليه من تصرفات في هذا المال وذلك المتاع؟ أيقبل السيد أن يكون لعبده يد على ما ملكت يده فلا يتصرف في شيء حتى يأخذ رضاه وموافقته؟ ذلك مالا يرضاه ولا يقبله سيد! وإلا فأين السيادة؟ وأين سلطانها المبسوط على ما بين يديها؟.
هذا، والأمر يجرى بين مخلوقين للّه، من سادة وعبيد، وفي مال اللّه، وفيما رزق، وأنعم من نعم!.
فكيف إذا خرج هؤلاء المشركون عن دائرة أنفسهم، ينقلب هذا المنطق، حتى تنعكس هذه الصورة، وحتى يجعلوا خلقا من خلق اللّه، وعبيدا من عبيده، شركاء له، فيما ملك ملك خالص له، لم يفده من أحد، ولم يتلقه من مخلوق؟ كيف يقبل هذا الضلال عقل، ويطمئن إليه عاقل؟.
فهل مع هذا البيان الواضح المبين، ومع هذه الحجة الدامغة القاطعة، يقبل المشركون أن يكون مع اللّه شريك، يرجون رحمته، أو يخافون عذابه؟
قد يكون! وهو كائن فعلا، فما أكثر المشركين الذين عميت بصائرهم، وزاغت قلوبهم، فلم يروا، في هذا البيان المبين، ولا في تلك الحجة القاطعة، ما يقيم لهم طريقا إلى اللّه.
وماذا تجدى الآيات، وماذا تغنى الحجج، إذا لم تجد الآذان المصغية، ولا العقول المدركة المستبصرة؟ {كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.
فالعقلاء وحدهم، هم الذين ينتفعون بآيات اللّه، ويهتدون بهديها، يتلقون العبرة والعظة منها.
قوله تعالى: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ}؟.
هو إضراب على ما يتلقاه المشركون من آيات اللّه المفصلة.. إنهم لا ينتفعون بها، ولا يجنون من ثمرها المبارك الطيب شيئا، بل يظلون على ما هم عليه من ضلال وشرك.. إنهم منقادون لأهواء غالبة عليهم، متسلطة على عقولهم.. ومن كان هذا شأنه، فلن ينقاد إلا بمقود هواه، ولا يستجيب إلا لنداء شيطانه.
وفي قوله تعالى: {بِغَيْرِ عِلْمٍ}.
إشارة إلى أن هذا الهوى المتسلط على المشركين، هو هوى أعمى عمى مطبقا، لا تنفذ إليه شعاعة من ضوء النهار الساطع... فقد يكون الإنسان متبعا هواه، ثم إذا نبّه تنبّه، وإذا أرشد رشد... شأن كثير من المشركين، الذين عاشوا في شرك الجاهلية، مستسلمين لأهوائهم، فلما أدركهم الإسلام، وطلعت عليهم شمسه، صحوا من نومهم، واستقبلوا نور اللّه، فأبصروا من عمى، واهتدوا من ضلال.
وقوله تعالى: {فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ}.
إشارة إلى هؤلاء المشركين الذين جمدوا على شركهم، وأقاموا على ضلالهم، وأنهم لن يتزحزحوا عما هم عليه من ضلال، ولن يخرجوا عما هم فيه من شرك، لأن اللّه سبحانه وتعالى قد أركسهم في هذا الضلال، وأغرقهم في هذا الشرك، وخلّى بينهم وبين أهوائهم: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ}.
إنهم لن يقبلوا هدى، ولن يطبّ لدائهم طبيب.. وهكذا يعيشون في ضلالهم، ويموتون به... فإذا جاء وعد اللّه، ووقفوا موقف الحساب والمساءلة، لم يكن لهم من جزاء إلا النار: {وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ} يدفعون عنهم بأس اللّه.
قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
هو أمر للنبىّ الكريم، أن يمضى على طريقه، وأن يدع هؤلاء المشركين وما أركسوا فيه.
وإقامة الوجه للدّين هو، اتجاه القاصد إليه، بكل كيانه، من غير التفات إلى شيء غيره.. والخطاب، وإن كان خاصا للنبىّ، فإنه عام، يدخل فيه كل مؤمن.
وقوله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها} هو جملة تفسيرية، للدين الحنيف.. ففطرة اللّه، منصوب بفعل محذوف تقديره، أعنى، أو أريد، أو نحو هذا.. فالدين الحنيف، وهو الإسلام، هو فطرة اللّه التي فطر اللّه الناس عليها، وخلقهم على استعداد فطرى لقبول هذا الدين، كما يقول الرسول الكريم: {ما من مولود إلا يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجّسانه}.
وهذا التأويل- واللّه أعلم- هو أولى من نصب {فطرة اللّه} على الإغراء، بتقدير لزم فطرة اللّه، أو نحو هذا.. لأن ذلك يقطع الصلة بين الدين الحنيف وفطرة اللّه، ويجعل كلا منهما كيانا مستقلا، على حين يجعلهما التأويل الذي تأولناه، شيئا واحدا.. وهو الأولى! وفطرة اللّه، هي ما أودع اللّه سبحانه وتعالى في الإنسان من قوى عاقلة، وطبيعة سليمة، في أصل الخلقة، تقبل الطيب، وتنفر من الخبيث.. وهذا هو ملاك أمر الدين، دين اللّه، الذي ارتضاه لعباده.
وهذه الفطرة، تعرض لها عوارض كثيرة تشوّه معالمها، أو تفسد طبيعتها، شأنها في هذا شأن حواس الإنسان، من سمع، وبصر، وذوق، ولمس، وشم... وكما أن لما يعرض للحواس من آفات، دواء تداوى به، كذلك جعل اللّه سبحانه للفطرة ما تتداوى به، إذا هي أصيبت بآفة من الآفات، وذلك بما يحمله رسل اللّه من آيات اللّه، وما في هذه الآيات من هدى ونور.
وقوله تعالى: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}.
هو خبر، مراد به الأمر.
والتقدير، لا تبدّلوا خلق اللّه، وهو الفطرة، ولا تفسدوا هذا الخلق السوىّ، بما تدخلون عليه من أهواء، بل عليكم بحراسة هذه النعمة، وعرضها على هدى اللّه، إذا طاف بها طائف من الضلال.
وقوله تعالى: {ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}.
الإشارة هنا إلى الدين، في قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً}.
والدين القيم، هو الدين المستقيم على فطرة اللّه التي فطر الناس عليها.
وقوله تعالى: {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
الناس هنا هم المشركون، الذين عموا عن أن يروا هذه الحقيقة، وأن يقع لعلهم أن هذا الدين هو الدين المطلوب للفطرة، المتجاوب معها.
قوله تعالى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}.
المنيب: الراجع إلى اللّه، المتجه إليه، المقيم وجهه لدينه، مجافيا كلّ دين غيره.
و{منيبين}.
كلام مستأنف، هو إجابة عن سؤال مقدّر، دلّ عليه ما سبق، وهوقوله تعالى: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}.
وذلك أنه لما كان قوله تعالى: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} خبرا يراد به الأمر، أي لا تبدّلوا خلق اللّه- وقع في نفس الذين سمعوا هذا الأمر، وأرادوا الاستجابة له، سؤال، هو: كيف نتصرف حتى لا نبدّل خلق اللّه؟ فكان الجواب: أنيبوا إلى ربكم، واتقوه، وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين.
فقوله تعالى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} هو في تقدير أنيبوا إلى اللّه، ولذا عطف عليه فعل الأمر: {وَاتَّقُوهُ}.
هذا، وإذا كانت قواعد النحو لا تتسع لهذا التحريج، فإن أسلوب القرآن لا تحكمه قوالب النحو، على ما انتهى إليه اجتهاد المجتهدين في ضبط قواعده..!
وإذا كان لابد من احترام هذه القواعد، فإن في مجال التخريج متسعا، لقبول كل شارد ووارد.. وبهذا فإن لنا أن نقول: إن {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} منصوب بفعل محذوف تقديره: كونوا {منيبين إليه} أو نحو هذا.
وقوله تعالى: {وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
معطوف على {منيبين} الذي هو في قوة فعل الأمر، أو على فعل أمر مقدر.
والإنابة إلى اللّه، هي الرجوع إليه، وذلك بتصحيح الفطرة، ومعالجة كل ما عرض لها من آفات، ولهذا جاء بعد ذلك، الأمر بتقوى اللّه، وإقامة الصلاة حيث يلتقى هذا الأمر مع فطرة سليمة، أناب أصحابها إلى اللّه، ورجعوا إليه، بعد أن بعدت بهم الطريق عنه.
وقدّم الأمر بالتقوى على إقامة الصلاة، لان التقوى، وهى خوف اللّه وخشيته، هي التي تجعل للصلاة ثمرتها.. فالصلاة، وأية عبادة من العبادات، أو قربة من القربات، لا محصّل لها إلا إذا كانت عن إيمان باللّه، ومعرفة به، وولاء وخشوع لجلاله وعظمته، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ} وقوله سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}.
وقوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}.
هو بدل من قوله تعالى: {مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
أي ولا تكونوا من المشركين الذين فرقوا دينهم باختلافهم فيه، حتى تفرقهم شيعا وأحزابا.. لأنهم يدينون بالباطل، والباطل وجوه كثيرة، وطرق متشعبة، فبعضهم يعبد هذا الضم أو ذاك، وبعضهم يعبد النار، وبعضهم يعبد الملائكة، وبعضهم يعبد الشمس والقمر.. ولكل جماعة مع معبودها أسلوب عبادة، وطقوس صلوات وقربات، وهى عند نفسها أنها على الهدى، وأن كل ما سواها في ضلال وخسران.
وليس هكذا الحق، فإنه وجه واحد، وطريق واحد..!

.تفسير الآيات (33- 39):

{وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ}.
تشير الآية الكريمة إلى فطرة اللّه التي فطر الناس عليها، والتي هي حظ مقسوم في الناس جميعا، يولدون بها كما يولدون على هذه الصورة الإنسانية، وما فيها من جوارح، وما في كيانها من قوى عقلية، ونفسية، وروحية، ثم تمضى بهم الحياة، فيختلفون أشكالا، ويتعددون صورا وأنماطا، في ألسنتهم، ومدركاتهم، ومشاعرهم.
وهناك حال واحدة، تأخذ فيها الفطرة مكانها في الناس جميعا، حتى أولئك الذين أفسدوا فطرتهم بكفرهم وضلالهم- تلك الحال هي ما يلبس الناس من ضر، وما ينزل بهم من بلاء وكرب.. ففى تلك الحال، يعود الإنسان إلى فطرته، أو تعود إليه فطرته، وإذا هو- من غير حساب أو تقدير، وعلى غير وعى أو إدراك- قد فزع إلى اللّه، ولاذبه من وجه هذا البلاء المطل عليه.
وفي هذه التجربة التي يمر بها كل إنسان مرات كثيرة في حياته، شاهد يقوم في كيان الإنسان، يشهد بأن اللّه في ضمير كل إنسان، وفي وجدان كل كافر، ومشرك، وإن كان هو ينكر ذلك، ولا يعترف به.. ولكن إذا مسه الضر، وكربه الكرب، أخذته صحوة كصحوة الموت، وإذا نفسه قد أشرقت بنور الحق، فعرف اللّه ومد يده إليه.. ولكن سرعان ما يخبو هذا النور، ويطغى عليه ظلام كثيف، حين تزال عنه هذه الغاشية، وتزايله تلك الصحوة، وإذا هو على ما عهد عليه نفسه من كفر وضلال.
وقوله تعالى: {وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} تقرير لهذه الحقيقة التي أشرنا إليها، وأن الناس جميعا، مؤمنهم وكافرهم على سواء في اللّجأ إلى اللّه، والضراعة إليه، حين ينزل بهم الضر، ويحتويهم البلاء.. ثم تختلف بهم الحال بعد هذا، كما كانت حالهم مختلفة من قبل.. فالمؤمنون على اتصال باللّه في السراء والضراء، وعلى إيمان به وولاء له، في اليسر والعسر.
أما غير المؤمنين فإنهم لا يعرفون اللّه، ولا يؤمنون به، إلا حين تضطرب بهم سفينة الحياة، ويغشاهم الموج من كل مكان.
هنالك يدعون اللّه مخلصين له الدين، كما دعا فرعون ربه، وآمن به حين أدركه الغرق!.
وقوله تعالى: {ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ}.
تصوير لحال هؤلاء الكافرين باللّه، حين يرفع عنهم البلاء، وتتداركهم رحمة اللّه.. إنهم لا يكادون يخرجون من يد الهلاك، حتى ينسوا ربهم الذي دعوه من قبل، وكأنهم لم يكن بينهم وبينه شيء! وفي العطف بثم بين الفزع إلى اللّه، وبين الغوث، واستجابة الدعاء، إشارة إلى أنه ليس في كل غوث يغاث المستغيثون.. فذلك مرهون بتقدير اللّه وحكمته، وفيما قضى به في عباده.
ثم إن الاستجابة، إذا وقعت لا تقع على حسب تقدير الإنسان لحدود زمانها، ولا للصورة التي تقع عليه.. فذلك أيضا، مرهون بتقدير اللّه، وعلمه، وحكمته.. وهذا مما يبتلى به العباد.. فالمؤمنون يدعون اللّه تضرعا وخفية، ولا ييأسون من روح اللّه ورحمته أبدا.. حتى أنه إذا لم يستجب لهم، ووقع ما يكرهون، أصبح هذا المكروه عندهم محبوبا مستساغا، لأنه من عند اللّه، وبتقدير اللّه، وبإرادته فيهم.. أما الذين لا يؤمنون باللّه، فلا يزيدهم ذلك إلا كفرا باللّه، وبعدا عنه.
وفي قوله تعالى: {إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} {إذا} هنا فجائية، وهى ذات دلالتين:
أولاهما: مبادرة المشركين والضالين، وإسراعهم إلى ما كانوا عليه من شرك وضلال:
وثانيتهما: أن ذلك خروج على غير المنتظر، من قوم كانوا إلى لحظات قليلة يتجهون إلى اللّه، ثم إذا هم يحولون وجوههم عنه، لا لسبب، إلا ما ساق إليهم اللّه من خير، وما مسهم به من رحمة!! وهذا أمر يثير العجب، والدهش والاستغراب.. أفهكذا يقابل الإحسان، ويستقبل الفضل؟ ولكن متى كان للعمى أن يبصروا، وللصم أن يسمعوا؟
وفي قوله تعالى: {مِنْهُمْ} أي من الناس، والمراد بالفريق، المشركون الضالون.
وفي إضافة المشركين إلى {ربهم} إشارة إلى فداحة هذا الظلم، الذي ركبه هؤلاء المشركون، فجحدوا نعمة ربهم، الذي استجاب لهم، ودفع البلاء عنهم!.
قوله تعالى: {لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}.
اللام في {ليكفروا} هي لام التعليل، فشركهم باللّه، هو علّة لكفرهم بما آتاهم اللّه من نعم، فهم بهذا الشرك. ينكرون نعم اللّه عليهم، ولا يضيفونها إليه، بل يجعلونها لمعبوداتهم التي يعبدونها من دون اللّه.
وفي قوله تعالى: {فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} انتقال من الغيبة إلى الخطاب، حيث يواجه هؤلاء المشركون بهذا الوعيد من ربّهم.. فليتمتعوا بما هم فيه، وسوف يعلمون ما يجره عليهم كفرهم وشركهم من بلاء شديد، وعذاب أليم.
قوله تعالى: {أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ}.
السلطان: الحجة، البرهان.
وفي الآية إضراب عن خطابهم، وعن الحديث إليهم، وإبعادهم من مقام الحضور، بعد أن تلقوا هذا الوعيد الشديد.. ثم التفات إلى من هم أهل للخطاب من المؤمنين، ليحاكم هؤلاء المجرمون أمامهم.. إنهم أشركوا باللّه، فما الحجة التي بين أيديهم على هذا الشرك؟ أأنزل اللّه عليهم كتابا ينطق بهذا الضلال الذي هم فيه؟ أم قام فيهم رسول من عند اللّه يدعوهم إلى هذا الذي يدينون به؟ ما برهانهم على هذا؟ وما الحجة التي بين أيديهم والتي يعبدون هذه المعبودات عليها؟ إنهم مطالبون بأن يقيموا على هذه المعبودات حجة، من عقل، أو كتاب، أو رسول... وإلّا فهو الضلال المبين، والمصير المشئوم. {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ} [117 المؤمنون].
قوله تعالى: {وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ}.
الناس هنا، هم مطلق الناس.. فإن من شأن الإنسان من حيث هو إنسان، إذا أذاقه اللّه من رحمته، وأفاض عليه من نعمه.. فرح، ورضى.. وإن أصابه سوء تكرّه، وساء ظنّه، وطاف به طائف اليأس والقنوط! {إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ} [19- 23 المعارج] والناس في هذا درجات متفاوتة.. فالمؤمنون، على حال غير حال المشركين والكافرين.
ثم إن المؤمنين ليسوا على حال واحدة.. بل هم درجات.. والدرجة التي يتحقق بها إيمان المؤمن على صورة سويّة محمودة، هي ألا يستبدّ به الفرح إذا لبسته نعمة، وألا يدخل عليه اليأس والقنوط من رحمة اللّه إذا مسّه ضرّ، وأصابه سوء.. فهو على رجاء أبدا من رحمة اللّه، وإنه- وهو في البلاء- ليستسيغ طعمه، وينزله منزل الرضا والتسليم من نفسه.. مفوضا أمره إلى اللّه، راضيا بما قسم اللّه له.
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
الرؤية هنا بصرية، وعلمية معا.. أي أنها رؤية بالنظر في وجوه الحياة وفي أحوال الناس، ومن هذه الرؤية يجيء العلم الذي يرى منه المبصرون أن اللّه سبحانه لم يجعل الناس على سواء، فيما قدّر لهم من أرزاق في هذه الدنيا، كما يقول سبحانه: {نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا} [32: الزخرف] فهذا العلم الذي يجيء به النظر في أحوال الناس، وفي اختلاف أرزاقهم- يدلّ على أن ذلك لم يكن إلا بإرادة عليا، وعن تقدير لمالك الملك، المتصرف في العباد.. فيبسط اللّه الرزق ويوسعه لبعض الناس، ويضيّقه ويقدره لآخرين، بحكمة وتقدير.. فالأرزاق بيد اللّه، يعطى منها ما يشاء لمن يشاء.. ذلك ما يعرفه المؤمنون باللّه، ويرضون بما قسم اللّه لهم، فلا يبطر المؤمن إذا أصابته نعمة، ولا ييأس، أو يحزن، إذا قدر اللّه عليه رزقه.. {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
أما غير المؤمنين فإنهم لا يرون للّه في ذلك شيئا.. وإنما هي الدنيا، يقتتل فيها الناس، ويتخاطفون ما عليها، كما تتخاطف الذئاب فريسة وقعت لها.. فمن وقع ليده أو فمه ما يشبعه رضى واطمأن، ومن لم يقع ليده أو لفمه شيء، أغتمّ وحزن، ومات أسى وحسرة! وهذه الآية، هي أشبه بتعقيب على الآية التي قبلها، وهى قوله تعالى: {وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ}.
ذلك أنه لو نظر الإنسان إلى أحوال الدنيا وتقلبات الأيام، وتبدّل الأحوال بالناس، ثم كان له من هذا النظر عبرة وموعظة- لكان له من ذلك موقف رشيد حكيم مع ما يبتلى اللّه سبحانه، العباد، من نعم ونقم.
فإذا ساق اللّه تعالى إليه مزيدا من النعم والإحسان، لم يستبدّ به الفرح، ولم يأخذه الغرور، لأنه يعلم أن ذلك إنى تبديل، وتحويل، وزوال.. وأنه إذا مسه سوء، وأصابه ضرّ، لم يقتله الجزع، ولم يخنقه اليأس والقنوط، لأنه يعلم- بإيمانه باللّه- أن تلك الحال لن تدوم، وأن مع العسر يسرا، وأن بعد الضيق فرجا وسعة، كما يقول سبحانه {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} وكما يقول جل شأنه {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً}.
قوله تعالى: {فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وهذه الآية كذلك تعقيب على سابقتها، لأنه إذا علم الإنسان علما يقينيا، أن اللّه هو الذي بيده كلّ شيء، وأنه هو سبحانه الذي يجرى أرزاق العباد كما شاء وقدّر- إذا علم الإنسان هذا العلم، سخت نفسه بالعطاء والبذل، وسمحت يده بالإحسان ببعض ما آتاه اللّه، وخاصة ما كان متعلقا بذي القربى، واليتامى والمساكين.. فهؤلاء لهم حقوق في أموال ذوى المال، وقد أوجبها اللّه لهم، في تلك الأموال وجعل أداءها فرضا واجب الأداء، لا تبرأ الذمة إلا بأدائه.
وشتان بين إنسان يعلم أن هذا المال الذي في يده، ليس له فيه شيء، وأن سعيه وكدّه لم يحصّل له إلا ما قدّره اللّه، وبين من يرى أن هذا المال الذي جمعه هو ثمرة عمله وكدّه، حتى ولو كان وارثا له.. إنه ابن المورّث وكفى!.
فالأول لا يحرص كثيرا على هذا المال، ولا يضنّ به على الحقوق الواجبة للّه فيما أعطاه اللّه.. لأنه إنما يعطى مما أعطاه ربّه، ولا يرى هذا المال الذي في يده إلا وديعة للّه عنده، يأكل منه بالمعروف، ويؤدّى ما أمره به اللّه تعالى فيه.. إنه ينظر إلى هذا المال على ضوء ما يشير إليه قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [7: الحديد] فهو خليفة للّه ووكيل عنه، في هذا المال الذي أعطاه اللّه، وليس للخليفة أن يخرج عن أمر من استخلفه، وما كان للوكيل أن يذهب مذهبا غير الذي رسمه له موكّله.
وأما الثاني، الذي يرى أن المال الذي معه، هو من جمعه، وكده، فإنه يتصرف في هذا المال تصرف المستبدّ بما يملك ملكا خالصا، لا يرى لأحد شيئا معه.. كذلك فعل قارون، وكان جوابه على من دعاه أن يبتغى بما آتاه اللّه الدار الآخرة، أن قال: {إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي} [78: القصص] وقوله تعالى: {ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} الإشارة هنا إلى البذل والإنفاق، على ذوى القربى والمساكين وابن السبيل.. أي هذا الإنفاق في هذا الوجه، هو خير مدخر، للذين يريدون بما أنفقوا وجه اللّه، ويبتغون مرضاته، بامتثال أمره، وهؤلاء هم المؤمنون باللّه.. أما غير المؤمنين، فإنهم إذا أنفقوا في هذا الوجه، فلا ينالون بما أنفقوا خيرا، لأنهم لم ينفقوا ما أنفقوا وهم ناظرون إلى اللّه، مؤمنون به، ممتثلون أمره، وإنما أنفقوا ما أنفقوا إرضاء لنزعات نفوسهم، ووساوس خواطرهم.
وقوله تعالى: {وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الإشارة للمنفقين المؤمنين، الذين يريدون بما أنفقوا وجه اللّه، فهؤلاء يتقبل اللّه سبحانه وتعالى منهم ما أنفقوا، ويضاعف لهم الجزاء الطيب عليه.. كما يقول سبحانه: {إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [27: المائدة] وكما يقول جل شأنه: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} [26: يونس] وكما يقول سبحانه: {وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ} [37: سبأ].
قوله تعالى: {وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ}.
الربا: هو الزيادة والنماء.. يقال ربا الشيء يربو، أي نما وزاد، ومنه الربوة، وهى ما ارتفع على ما حوله من الأرض.
والربا، في لسان الشريعة الإسلامية، هو القرض في مقابل عوض.
وقوله تعالى: {وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ} معطوف على قوله تعالى: {ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فهو في تقدير، ما أنفقتم من خير، وما آتيتم من مال لذوى القربى واليتامى والمساكين تريدون به وجه اللّه، فهو خير عند اللّه، تجزون به خيرا وتلقون فوزا وفلاحا.. وما آتيتم من مال تريدون به أن يربو ويزداد في أموال الناس، فلا يقبله اللّه، ولا يزكيه.. وقد سمى هذا المال المعطى، ربا، لأنه أعطى وهو منظور إليه على أنه يربو ويزيد، ثم يعود إلى صاحبه أضعافا مضاعفة.
وفي قوله تعالى: {لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ} إشارة إلى أن ربا هذا المال، إنما يربو ويزداد بما يأكل من أموال الناس.. لأنه إنما يربو ويزداد من أموال من أخذوه، ويرعى في أموالهم، ويلتهمها التهاما.. فهو آفة تدخل على الذين يأخذونه، فيغتالها، ويعيث فسادا فيها، ويرعى كل صالحه منها.
وهذا يعنى أن الذين يقترضون بالربا إنما يجنون على أنفسهم، بهذا الوباء الذي يدخلونه عليهم، ويخلطونه بأموالهم.
وقوله تعالى: {وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ}.
أي أن ما يعطى من مال قرضا حسنا، بلا مقابل وعوض، هو عمل من أعمال البر، يتقبله اللّه ويضاعفه للمقرضين، فيبارك عليهم هذا المال، في الدنيا، ويجزيهم الجزاء الحسن عليه في الآخرة.. هذا إذا كان مرادا به وجه اللّه، ومعطى من يد مؤمنة باللّه، تريد بهذا القرض، تفريج كرب المكروبين، وسدّ حاجة المحتاجين.. أما إذا كان القرض لغير هذا الوجه، فلا مكان له في الصالحات من الأعمال عند اللّه.